السويداء: منارة الإبداع ورافد الهوية الثقافية السورية

تُعد مدينة السويداء، المعروفة بـ "جبل العرب"، قلعة ثقافية وفكرية راسخة في جنوب سوريا، لطالما كانت منبعاً غنياً للمواهب والإبداعات التي أسهمت بفاعلية في صياغة النسيج الثقافي السوري على مر العصور. إن موقعها الفريد وتاريخها العريق كمركز فكري، قد أسهما في تهيئة بيئة خصبة لازدهار الفنون والآداب والرياضة، لتصبح السويداء رافداً أساسياً للهوية السورية المتنوعة.


إرث أدبي وفكري متجذر

لطالما كانت السويداء موطناً للشعر والأدب والفكر، حيث برز منها رواد ومفكرون تركوا بصمات واضحة في المشهد الثقافي السوري. من الأجيال السابقة، يبرز أبو علي قسام الحناوي، الذي جمع بين الشعر والقيادة الدينية، مما يعكس تقليداً تاريخياً يدمج بين الأدوار الثقافية والاجتماعية في المنطقة. كما يُعد الأديب السوري المرموق سلامة عبيد (1921–1984)، الذي اشتهر بكونه كاتباً، وروائياً، وشاعراً، ومؤرخاً، وباحثاً لغوياً، ومؤلفاً لأول قاموس صيني-عربي كبير، دليلاً على العمق والتنوع الفكري الذي يميز أبناء السويداء.

وفي العصر الحديث، تواصل السويداء رفد الساحة الأدبية بشخصيات مؤثرة. الشاعر والمفكر صابر فلحوط، الحاصل على دكتوراه في العلوم السياسية، أثرى المكتبة العربية بأحد عشر ديوان شعر وعشرة كتب نثرية، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الأدب عام 2019. أما الشاعرة سهام الشعشاع، فقد حظي إنتاجها الأدبي بشهرة دولية، مما يعكس الامتداد العالمي للمواهب السويدائية.

على الصعيد الفكري والبحثي، يبرز المفكر والمؤرخ ذوقان قرقوط (1917–2014)، الذي ترك إرثاً فكرياً واسعاً يضم أكثر من ستين مؤلفاً ومترجماً، منها أعمال رائدة في التاريخ والفلسفة. كما أسهم عالم الآثار البارز علي أبو عساف (1931–2018)، المعروف بـ "كبير الآثاريين السوريين"، في فهم وحفظ تاريخ سوريا القديم من خلال مؤلفاته وأبحاثه الأثرية العديدة.

كما برز من أبناء السويداء نواف أبو حسون، الشاعر والمسرحي والكاتب، الذي جمع بين الفن الأدائي والأدب الشعبي، وساهم في توثيق التراث الشفهي من خلال أعماله الشعرية والمسرحية. يُعرف بأسلوبه البسيط والعميق، وقد شارك في العديد من المهرجانات المحلية والعربية، وهو من الأصوات التي تعبر عن الوجدان الشعبي الجبلي، مع اهتمام خاص بالهوية الثقافية الدرزية والسورية عموماً.


فنون أدائية عابرة للحدود

تُعد السويداء موطناً لإرث فني أدائي غني، حيث قدمت للعالم العربي والعالمي أيقونات فنية لا تزال أصداؤها تتردد حتى اليوم. من أبرز هذه الأسماء، الشقيقان فريد الأطرش وأسمهان، اللذان وُلدا لعائلة درزية أميرية من سوريا. فريد الأطرش، "ملك العود"، أثرى الموسيقى والسينما العربية على مدى أربعة عقود، ملحناً ومغنياً وعازفاً، ومشاركاً في 31 فيلماً موسيقياً. أما أسمهان، فقد تميزت بصوتها الفريد وأدوارها التمثيلية المؤثرة.

كما برز الفنان فهد بلان (مواليد 1933) بصوته القوي وحضوره الفني، مقدماً مدرسة في الغناء الأصيل. وتستمر المواهب الموسيقية بالظهور، مثل عازفي الكمان والفيولا والبيانو رزان قصار ومروان أبو جهجاه وأغيد منصور، الذين يسعون لنشر الموسيقى الكلاسيكية الجادة. كما تُحيي فرقة "تكات" التراث الفولكلوري للمدينة بأغانيها الأصيلة.

وفي عالم المسرح والدراما، قدمت السويداء كوكبة من الفنانين المبدعين. تم تكريم رواد مثل الممثل والمخرج المسرحي يوسف أبو حلا، والكاتب منصور حرب هنيدي، والممثلة دارين عزام، والممثل المسرحي نزيه سراي الدين، مما يؤكد على حيوية المشهد المسرحي في المدينة. كما يُنسب الفضل للفنان المعتزل نجيب مرشد رضوان في تأسيس مسرح العمال عام 1980، وله إسهامات بارزة في المسرح العمالي.

من الشخصيات البارزة في الدراما التلفزيونية والمسرح، نذكر محمود جبر (1935–2008)، الذي ترك بصمة واسعة في السينما والتلفزيون. وتتواصل الأجيال الفنية مع ممثلين مثل مهند قطيش، وليلى سمور، وليليا الأطرش، ومروة الأطرش، ومزنة الأطرش، وحنان شقير. كما أسهم تامر العربيد كعميد للمعهد العالي للفنون المسرحية ومخرج وممثل. وتبرز نائلة الأطرش كمخرجة مسرحية وأستاذة تمثيل، وتنشط أيضاً في مجال حقوق الإنسان. هذه الأسماء تعكس التنوع والعمق في المواهب الأدائية التي ترفد المشهد الفني السوري.


فنون تشكيلية بروح محلية وعالمية

يُظهر المشهد الفني التشكيلي في السويداء غنىً وتنوعاً، حيث يجمع الفنانون بين الأصالة المحلية والوصول العالمي، مع ارتباط عميق بالبيئة والتراث. الفنان التشكيلي أيمن فضة رضوان يتبع الأسلوب الانطباعي ويركز على الوجوه والأجساد، وقد امتدت تجاربه في الرسم المباشر أمام الجمهور من السويداء إلى دمشق وكراكاس. أما عبد الله أبو عسلي (مواليد 1962)، فيعشق الطبيعة والجمال، ويُبرز في لوحاته سحر مدينة السويداء بأسلوب "الواقعية" الجديدة.

وقد وصل فنانون مثل منصور الحناوي إلى العالمية، حيث أقام معارض فردية ومشتركة في سوريا ولبنان والإمارات وألمانيا وهولندا. كما يتمتع الفنان عصام الشاطر بخبرة فنية تزيد عن ثلاثين عاماً، وأعماله مقتناة في جهات رسمية بسوريا وعدة دول أخرى. ويمزج الشاعر والفنان التشكيلي ناصر زين الدين أعماله بين الشعر والرسم، معبراً عن شوق للحياة.

في مجال النحت، برز أنور رشيد (مواليد 1960) بمنحوتاته المتوازنة والرشيقة، خاصة تلك التي يستخدم فيها مادة البازلت المحلية. ويُعد الفنان الراحل فؤاد أبو عساف "أيقونة البازلت السورية"، حيث تميز بأسلوبه المتفرد وغنى أعماله وتنوع خاماته، وترك إرثاً فنياً غنياً. كما يُحول النحات مهند سليمان الحديد إلى فن، وقد صُنفت منحوتته "الحصان السوري" ضمن أفضل عشرة أعمال في أوروبا، ويسعى لدخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية. ويتفرد شادي أبو حلا بأسلوبه المميز في الحفر على الخشب والمعادن، وهو أستاذ لمادة الحفر في كلية الفنون الجميلة.

ومن الأسماء البارزة أيضاً في مجال الكاريكاتير، يبرز رائد خليل، الفنان الساخر الذي تُعرض أعماله في كبرى الصحف والمجلات العربية والدولية. يشغل منصب مدير تحرير مجلة الكاريكاتير السورية، كما أشرف على تنظيم عدة معارض دولية، منها "المعرض الدولي للكاريكاتير – سوريا". فاز بعدة جوائز دولية مرموقة في اليابان وتركيا والصين وإيران وغيرها، وتُرجم العديد من أعماله، التي تجمع بين الطرافة والنقد السياسي والاجتماعي، إلى أكثر من لغة.


إنجازات رياضية بروح التحدي

تُظهر السويداء حضوراً رياضياً لافتاً، يبرز فيه المواهب الشابة في مختلف الألعاب، ويُظهر مرونة في ثقافة الرياضة رغم التحديات. من أبرز المواهب الشابة، الأخوات جنى وسما وليلى كنعان في رياضة الجودو، ولورين الحسين في الكاراتيه، وكريم الأطرش في الشطرنج، ومايا الجلاد ورنيم الحصباني وتالا حاطوم في كرة الريشة الطائرة. كما تُبرز سلاف خليل تفانيها الطويل في كرة السلة، ومؤيد النجار في رفع الأثقال.

على الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجه البنية التحتية الرياضية في السويداء، مثل مشروع المدينة الرياضية الذي تعثر وتضرر، فإن استمرارية المشاركة والنجاحات الفردية والجماعية تعكس ثقافة رياضية مرنة تتجاوز قيود المرافق الرسمية. تاريخياً، لعبت الأندية الرياضية مثل "نادي الفتيان" دوراً أوسع في المجتمع، حيث كانت تجمع بين الأنشطة الرياضية والثقافية، مما يعكس نظرة شاملة لتنمية الشباب.


خلاصة: نسيج ثقافي لا ينضب

إن السويداء، عبر أجيالها المتعاقبة، تُقدم نموذجاً فريداً للمدن التي تُنتج المواهب في مختلف الميادين. من الشعراء والمفكرين الذين أثروا الفكر العربي، إلى الموسيقيين والممثلين الذين وصلوا إلى العالمية، مروراً بالفنانين التشكيليين الذين استلهموا من بيئتهم وأبدعوا، وصولاً إلى الرياضيين الذين يواجهون التحديات بروح الإصرار. هذا النسيج الغني من الشخصيات الأدبية والفنية والفكرية والرياضية يؤكد على حيوية المدينة الثقافية وقدرتها على الإسهام بفاعلية في المشهد السوري الأوسع، وغالباً ما يتم ذلك بمرونة وتفانٍ يتجاوزان الظروف المحيطة، ليظل إرث السويداء جزءاً لا يتجزأ من الهوية الثقافية السورية.